استيقظت من النوم كالعادة على صوت المنبه، فلم أجد أنني قد تحولت إلى حشرة هائلة في الفراش كما حدث لجريجور سامسا، وهذا ما أحبطني، فقبل أن أنام كنت قد أعددت نفسي لقضاء أيام غير عادية في جسد كائن آخر، ولكن هذا لم يحدث للأسف.
وضعت فنجان القهوة الفارغ ثم طويت طرف الصفحة التي كنت قد توقفت عندها، ووضعت الكتاب إلى جواري فوق الكومودينو الذي تعلوه الأتربة.
كل شيء هنا تعلوه الأتربة منذ أن ماتت السيدة التي كانت تأتي كل أسبوع لتنظيف البيت، كانت تأتي صامتة، لا يدور بيننا أي حديث حتى إنني كنت في الأيام الأخيرة قد نسيت اسمها، فقط حين تنتهي من عملها تسألني ما إذا كنت أريد شيئا آخر، أكتفي فقط بهز رأسي نافيا، تغلق الباب خلفها بينما دخان سيجارتي في طريقي إلى النافذة.
تغيبت لفترة طويلة ثم عادت، دق الجرس الباب ذات صباح فقمت لأفتحه، وجدتها أمامي، كانت ترتدي جلبابا أسود وتضع طرحة سوداء فوق رأسها، رأيت في عينيها نظرة حزن، فسألتها عن سرتغيبها، خرج صوتها مختنقا بالدموع، قالت إن ابنتها الوحيدة ماتت بينما كانت تلد حفيدها، الذي خرج إلى الدنيا بلا أم، كان شيء ما قد انكسر بداخلها، طلبت منها ألا تعمل في ذلك اليوم وأن تجلس لتستريح، فرفضت، قالت: يا بيه أديني باشغل نفسي لغاية ما أروحلها.
حملت الفنجان الفارغ ووضعته في الحوض، رأيته هناك، صرصور صغير غاب بسرعة في فتحة الحوض، تأكدت من إحكام إغلاق محبس الغاز، فأنا لدي هاجس لا يغادرني، أنني سأموت مختنقا برائحة الغاز، لهذا أحرص على التأكد من إغلاقه قبل الذهاب إلى النوم.
كثيرا ما استيقظت من النوم مفزوعا، أجري مسرعا إلى المطبخ للتأكد من إغلاق المحبس لظني أنني قد نسيته مفتوحا، أظل منحنيا مرتكزا بكلتا يدي فوق ساقي ألهث، أظل هكذا إلى أن أستعيد أنفاسي، أفتح حاملة الأطباق التي تعلو الحوض، أتناول كوبا أملأه بالماء وأقف مرتكزا بيدي الأخرى إلى الحوض، وأرتشف الماء على دفعات متقطعة، أبلل كفي بالماء وأمررها فوق وجهي، أغلق النور وأعود إلى النوم.
توقفت في القراءة أمس عند الفقرة التي يقول فيها كافكا:
“ولم تكن الأم قد اعتادت مظهر جريجور الذي كان ليصيبها بالمرض فأسرع جريجور مهرولا إلى الخلف حتى نهاية الطرف الآخر من الأريكة”
أنا لا أخشى مصير جريجور سامسا، فليس لدي أبوان أخشى أن أخيفهما، أو أن أسبب لهما المتاعب، فأنا أعيش بمفردي منذ أن توفي والدي قبل سنوات وتبعته أمي بعد شهور قليلة، ثمتزوجت أختي وسافرت مع زوجها إلى مدينة أخرى، قليلا ما نتزاور، وتتصل هي بي على فترات متباعدة، مكالمات قصيرة بذات العبارات التي تكررها في كل مرة عن الصحة والأحوال، وأكرر أنا أيضا ذات العبارات في كل مرة بالسؤال عن زوجها وأولادها الصغار.
نعم لا أخشى مصير جريجور سامسا، لكنني لا أريد أن أتحول مثله غلى حشرة كبيرة، أريد فقط أن أصير مثل الصرصور الصغير الذي رأيته يختفي في فتحة الحوض منذ قليل.
لن يلحظ أحد غيابي، فعلاقتي بالجيران تقتصر على تبادل تحيات مقتضبة أمام باب المصعد، أو عندما يمر أحدهم بجواري فوق الدرج لو تعطل المصعد.
لا يدق أحدهم باب بيتي، فقط في اليوم الثالث من كل شهر بعد الغروب بقليل يدق جرس الباب، أعرف أنه أحد أبناء صاحبة العقار قد أرسلته أمه لتحصيل إيجار الشقة، أقوم من جلستي أمام مسلسل أتظاهر أنني اتابعه لكنني لا أتابع إلا صورا تتحرك أمامي فوق الشاشة، لا أتذكر أي كلمة من التي يتبادلونها فيما بينهم، أفتح الباب أراه أمامي يلقي علي التحية فأردها بكلمات مقتضبة، يمد يده بالإيصال آخذه منه وأدخل لأعود أليه بالنقود يتناولها مني ويصعد الدرج، أغلق الباب وأعود لمتابعة تترات الحلقة التي انتهت.
سيكون بإمكاني ساعتها أن أخرج إلى المنور، الذي تطلعليه شبابيك المطابخ، سوف أتسلق مواسير الصرف، أقف بطرف نافذة جارتي التي تسكن في الشقة المقابلة، الجارة التي دائما تغني في المطبخ، وهي ترتدي ملابس شفافة تكشف جسدها الذي يضج بأنوثته.
كنت أحيانا ما أرى زوجها وهو عائد من العمل، يمشي فوق أطراف اصابعه ثم يحتضنها من الخلف، يطوق خصرها بذراعيه ويمرر شفتيه ببطء فوق رقبتها، عندما أتحول إلى صرصور صغير، ربما أدخل إلى المطبخ وأختبئ في أحد أدراجه، سوف أتمكن من مكاني هذا من الاستماع إلى الكلمات التي يهمس بها إليها، والتي لم يكن بإمكاني أن أسمعها، وأنا أفتح باب الثلاجة وأتناول زجاجة ماء أرفعها إلى فمي، بينما بطرف عيني أراه يدخل متسللا، يقبض بكلتا كفيه خصرها فتطلق ضحكة ترتج لها جدران روحي.
سوف أتمكن أن ألاحظ على مهل حمالة قميص نومها وهي تنسدل برفق فوق كتفها المستدير، واصابعها النحيلة وهي تعاود رفعها مرة أخرى، سألاحظ خيط العرق الذي يسيل فوق رقبتها الطويلة ببطء حتى يغيب في النهر الذي بين ثدييها الطريين.
سوف أتمكن وأنا أتحرك في هذا الحيز الضيق المظلم من أن أستمع لغنائها، دون أن تتوقف مثلما كانت تفعل عندما تفاجأ بوقوفي في الشباك المقابل، فترمقني بنظرة غاضبة، وتسرع بإغلاق شباك مطبخها وهي تنفخ هواء ساخنا من بين شفتيها، اه من شفتيها هاتين، كثيرا ما تمنيت أن أمرر إصبعي فوق شفتها السفلى قبل أن أقرب فمي وألتقهمها بين شفتي.
فتحت عيني على رنين الهاتف، نظرت إلى جسدي، ما زال كما هو، كان زميلي في العمل على الجانب الآخر يخبرني أن دفتر الحضور قد رفع، وأنني لن أتمكن اليوم من التوقيع فيه، نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط المواجه، سحبت الغطاء فوق جسدي، وعدت ثانية إلى النوم