سيول2015
يشعل آدم سيجارته بعود ثقاب طويل، ويجلس واضعًا ساقًا فوق ساق أمامي، ينظر إليَّ، ويقول: ما الذي حدث اليوم؟
أجلس أمامه، مطرقةً رأسي إلى كفَّيْ يدي، أفركهما بعنف، أبتلع ريقي الجاف قبل أن أرد، ألا تشاهد الأخبار؟
ـ لا أفعل.
ـ كم أحسدك.
يغادر مقعده متجهًا إليّ، يجلس بجواري على الأريكة غير المريحة، أمام النافذة الكبيرة، والتي تدخل بعض الضوء الخافت للغروب، ينظر إليّ قائلاً: ألم أطلب منك التوقف، عن متابعة الأخبار من هذا النوع؟
ـ كيف أفعل ذلك، وأنا أعمل في وكالة إخبارية؟
ـ يمكنك دائمًا العمل على الأخبار العادية، المحلية، والمنوعات.
ـ لا يوجد خبر لا ينتشر، أنت نفسك سمعت بالتأكيد عما حدث، لكنك تريد فقط التظاهر بالجهل.
الجهل مريح، الجهل يمنحك الفرصة، للنوم بضمير مستريح كل ليلة، الجهل هو ما يُفرّق بيني وبينك، الجهل لا يحولك لمعتوه مثلي، تزوره الكوابيس في فراشه، وهو نائم، وهو مستيقظ.
ـ حياة، أريدك أن تسترخي قليلاً، هل اليوم هو اليوم؟
ـ لا أعرف.
ـ لكنك تعرفين أن عليك البدء في الحكي، منذ متى ونحن نجلس معًا؟ شهرين؟ تتحدثين عن حياتك هنا، عن الكوابيس المستمرة، لكنك تعرفين كما أعرف، أن الأمر بدأ قبل ذلك بكثير.
أَرفع رأسي إلى وجهه البارد اللامبالي، عيناه الخضراوان تلمعان، مع بقايا الضوء الأحمر، المنعكس عليهما من النافذة، ينفث دخان سيجارته في وجهي بلا حرج، يثبت عينيه في عينيّ، فأشعر برغبة في الاستسلام، والحكي…
كان على حق، كل ما يحدث الآن، بدأ منذ فترة طويلة جدًا، أريد أن أخبره بكل شيء، التخلص من هذا العبء، الذي لم أقصه كاملاً على بشر، أريح رأسي على مسند الأريكة، أتذكر لقطة ضبابية عن البداية، أحاول تجميع المشهد الأول كما كان، تذكّر التاريخ، الطقس، المكان، ملابسي، أحاول تذكر ما أريد أن أقصه عليه منذ فترة، ولا أفلح.
تعلمت حمل أوراق بيضاء فارغة معي في كل مكان، قصاصات أخط عليها بعض المشاهد التي تخطر لي فجأة، مشاهد ماضية من حياتي، مشاهد من حيَوات أخرى لأشخاص آخرين، تهبط عليَّ مثل الوحي، فأخرج ورقة، وأكتب سطرين، لأتمكن من تجميع أفكاري المتناثرة.
أخرج بعض الأوراق من حقيبتي، أعيد ترتيبها قليلاً، أبحث عن الورقة التي أريد البدء بها، العناوين القصيرة تذكرني بالتفاصيل الخفية، تمنحني القدرة على السرد من دون توقف، أغمض عينيّ، وأبدأ في الكلام.
القاهرة 2009
كان الشتاء لا يزال رفيقًا، تبدو الأمطار الخفيفة، أقرب لقطرات ندى عابرة، عصر ذلك اليوم من شهر يناير، أرتدي معطفي الجلدي الأسود الطويل، أحاول الإسراع في خطواتي، متجهةً نحو مدخل المقهى الهادئ في حي المعادي، كانت ريم تنتظرني داخله، استعدادًا للانطلاق نحو ندوة أدبية في مكتبة قريبة، أعرف أنها برفقة أحمد، كنت أُعدّل من ملابسي أمام الباب الزجاجي حين لمحتهما، جالسين قُبالتي على مائدة تتصدر المكان، دفعت الباب، وأنا أتساءل عن الشخص الثالث، الذي يعطيني ظهره، الشخص الجالس معهما، ولم أره من قبل.
أقترب ببطء نحو المائدة، وكأنني أقترب ببطء نحو موعد حاسم، لم أكن أعرف أن هذا الرجل، الذي لم أره حتى تلك اللحظة، ربما يكون هو الأكثر تأثيرا فيّ، حياتي، الشخص الذي رسم بيده مساري بعد ذلك، حدده وحضره كما لو كان يعرف تمامًا، ماذا سيحدث، ولما سيحدث.
قلبي يدق، وحاجباي ينعقدان، وريم هناك تلوح لي بذراعها، مطالبةً إياي بالإسراع.
ـ مساء الخير.
ـ أهلاً، لم تأخرت؟ ننتظرك منذ ساعة.
ـ آسفة، من الصعب الحصول على سيارة أجرة في هذا الطقس.
كنت أصافحهم بسرعة، محاولة ألا ترتطم عيناي بعينيه، لكنه وقف أمامي مثبتًا نظراته على وجهي، وريم تصيح بصوتها الطفولي، تعرفني به، وتعرّفه بي.
عيناي معلقتان بوجهه، ثابتة بشكل لم أعهده في نفسي، أتذكر تمامًا المرة الأولى التي أسمع فيها اسمه، خالد.. قالتها ريم ليصبح من فورها، اسمي المفضل على الإطلاق، خالد.. يا لجمال الاسم، ويا لعذوبته.
هل كان اسمك مجرد وصف لوجودك في حياتي أيضًا؟ كنت خالدًا من قبل أن أعرفك، أتيت، وأخذت مكانك ببساطة في عقلي، مطمئنًّا لبقائك الدائم، فقط بمجرد أن نطقته ريم بحروفه الأربعة.
ـ خالد، هذه حياة.
حياة.. يكرر اسمي من خلفها من دون تكلف، يبدو وكأنه يختبره أيضًا، يمرره على شفتيه، يتذوقه، يتنفسه، يلمسه، حياة.. يقولها بأريحية، وكأنه يعرف أن هذا اسمي، وكأنه ينتظرني مثلما كنت أنتظره، أسمعه من بين شفتيه فاستغربه، وكأنه ليس اسمي، الذي عاش معي طيلة عمري، وكأنه اسم جديد يطلقه عليَّ منذ هذه اللحظة، أنا اليوم فعلاً حياة.
ـ أهلاً.
أتمتم بالكلمة، فلا يسمعها أحد سواي، وريم لا تزال في محاولاتها المتحمسة، لتعريفنا على بعضنا البعض، في دقيقة ونصف، تخبره بأنني تخرجت من كلية الصيدلة، تخبرني أنه يدرس الهندسة مع أحمد، تغضب عندما يعلق على دراستها هي في كلية الطب، التي يبدو وكأنها لن تنهيها أبدًا.
أما خالد، فكان ينظر إليّ مبتسمًا، عندما تكلم، كان صوته هادئًا، مألوفًا.
ـ لكنك لا تبدين أكبر سنًّا.
نظرت له بدهشة، لماذا تهتم إن كنت أكبر أم أصغر، كيف فكرت في وقتها؟ لماذا رغبت في أن تثبت تقدمك العمري عليّ؟ وكنت أنا ملهوفة، لطمأنتك بأنني أماثلك في العمر، إن لم أكن أصغر.
ـ أعتقد أننا في نفس السن، أبي أدخلني إلى المدرسة مبكرًا.
ـ ربما أكون أكبر.
ـ هل السن مهم بالنسبة لك؟
ـ أبدًا، لكنك تبدين، كما لو كنت طفلة صغيرة في الثانوية العامة.
ـ لا أعرف إن كان هذا مدحًا أم ذمًا!
ابتسم من دون أن يجيب، راشفًا القطرات الأخيرة في كوب الشاي، سألتني ريم إن كنت سأتناول شيئًا أم ننطلق، نهضت من مقعدي لأجيب سؤالها من دون كلام.
في الخارج كانت الأمطار تزداد قوة، أشار خالد بيده نحو سيارته، اتجهنا نحوها لأجد نفسي جالسة، بجواره على المقعد الأمامي، التفت إلى الخلف، كانت ريم تحتضن يد أحمد، وهما جالسان في الأريكة الخلفية، يراقبان قطرات المطر على الزجاج، ابتسمت محاولةً تحاشي النظر إلى وجه خالد، ألمحه بطرف عيني، وهو يلتفت إليَّ كل لحظتين، أشعر بنظراته على جانب وجهي، فأنشغل أكثر بتأمل قطرات المطر على الزجاج المجاور.
ـ لماذا لا تريدين النظر إليَّ؟
ـ أبدًا، لم أفكر في ذلك.
وصلنا أخيرا إلى مقصدنا، كانت الندوة في مكتبة قريبة داخل حدود المعادي، أحاول تذكر تفاصيلها اليوم فلا أستطيع، لا المضيف، ولا الموضوع، ولا حتى شكل المكان، كل ما أذكره، هو جلستنا الطويلة المنعزلة في الصفوف الخلفية، أنا وهو فقط، لا أذكر حتى كيف وصلنا إلى تلك المقاعد، أو لم جلست بجواره بعيدًا عن ريم.
كان الأمر سهلاً وسلسًا، وكأنما هناك يد خفية تحركنا جميعًا، كنت أشعر بأنني أعرفه وآلفه، حتى وجهه كان قريبًا وعزيزًا.
تجاذبنا أطراف الحديث حول الأدب، الأفلام، السياسة، لم أكن أملك أي صداقات إلى جانب ريم، حتى علاقتي بأحمد، كانت مقتصرة بعلاقتها هي به، لذا كنت أشعر أنني شخص آخر، أتحدث بحرية، أضحك من دون خجل، أسرد أفكاري، وأصفها بوضوح لم أفعله من قبل.
كانت هذه هي المرة الأولى، التي أتحدث فيها حديثًا مطولاً مع شاب لا أعرفه، ليس التزاما بقدر ما هو انعزال اجتماعي، كان الكلام سهلاً بالفعل، ينساب من دون أن أشعر، أو أفكر، كنت أبدو معه أكثر ذكاءً وثقافةً، أفهم تمامًا كل ما يتحدث عنه، حتى تلك الأمور المتعلقة بدراسته للهندسة المدنية.
أخبرته بأفكاري، فابتسم ونظر إليّ، والسعادة تظهر ببطء في عينيه.
بعد ساعتين من حديث الكاتب الذي لا أذكره، وساعتين من حديثنا معًا، الذي أذكر خطوطه الرئيسية، بشكل ضبابي أقرب إلى الحلم، وجدت نفسي فجأة من جديد، بجواره في السيارة، هذه المرة وحدنا، والمطر
لا يزال مُصرًا على مشاركتنا هذه اللحظات الأولى.
كان ينظر إلى الطريق أمامه، وهو في طريقه لمنزلي الذي أصفه له، أما ريم وأحمد ففضّلا التمشية معًا، في جو الشتاء الرومانسي.
كنت أشعر بالبرد، والأضواء القادمة من الاتجاه المنعكس، تتكسر على قطرات المطر، صوت المساحات منتظم بشكل ميكانيكي، وصوت فيروز ينساب من الراديو، فيزيد من إحساسي المباغت بالتحليق، أشعر أنني أطفو على المقعد، قلبي يطفو، وكأنه يدق في عنقي، أنظر إلى الأريكة الخالية من خلفي، وأتساءل، ترى ماذا تفعل ريم الآن في الشارع المظلم البارد؟ ألتفت إلى خالد، قائلة:
ـ لا يزال المطر يتساقط، لا أعرف كيف سيتمكنان من الوصول إلى منزل ريم.
ـ لا أعتقد أنهما يفكران في ذلك، للمطر وجهه المختلف لدى العشاق، بالنسبة لهما، هو قطرات ناعمة من الجنة.
ـ أنت رومانسي جدًا.
ـ أبدًا، لكني أتفهم رغبتهما.
ـ وأنا أيضًا، أنا فقط قلقة عليهما.
ـ أعتقد أنك تقلقين كثيرًا.
ـ من أخبرك؟
ـ لا أعرف، أنا فقط أعرف.
المميز فيه أنه لم يكن مميزًا، عيناه العسليتان تلمعان كلما ابتسم، أحب أنفه الطويل، وذقنه الحليق، كان نحيفًا مثلي، يبدو على وجهه، لمسة واضحة من الثِقَل، وكأنه مثقل بشيء ما، وكأنه دائم التفكير أو الحزن.
ـ لم تبدو مثقلاً بالتفكير؟
نظر إليّ، وابتسم فلمعت عيناه، أتذكر لمعتهما حتى اليوم، أتذكر عينيه العسليتين، وأرتجف، هناك دائمًا لحظة ما في كل قصة، عندما تشعر فجأة، بأن هذا الشخص الجالس أمامك، مختلف عن جميع من تعرفهم، وأنك ـ ربما ـ في سبيلك للوقوع في حبه من دون مقاومة، من كلمة عابرة، من مصافحة سريعة عادية، من التفاتة، من نظرة، من جملة معتادة مثل: لا أعرف.
كانت هذه الجملة، هي التي طرقت جدران قلبي وخدشته، كنت أنحدر منذ النظرة الأولى إلى فخه، وكان هو هادئًا، واثقًا ينتظرني حتى أتم السقوط.
ـ فعلاً؟ هل أبدو كذلك؟
لم أرد، أشحت بوجهي نحو النافذة، وقلبي يرتعش، لم أعرف هذه المشاعر من قبل، ولم أصدق وجودها، كنت أسخر من ريم، التي تبدو طائرة من الفرحة بعد لقائها بأحمد، ولو للذهاب في رحلة عبثية، بحثا عن مسكن الزوجية القادم، أو للحصول على أفضل سعر، في عملية شراء المفروشات والأثاث.
كانت تصف سعادتها بالفراشات، المحلقة حول رأسها عند رؤيته، بأصوات العصافير، التي تتصاعد في أذنيها من اللا مكان، كنت مثلها أشعر بالفراشات، تحلق الآن في بطني وصدري، تصعد لتخرج من فمي مع كل كلمة، العصافير تغني في أذني، فلا أسمع بوضوح ما يقول.
أشرت له بيدي فجأة، نحو البيت القديم القريب من وسط البلد، هذا هو منزلي، أشكره بصوت خافت، أبتسم له وأنا أغادر السيارة في طريقي إلى المنزل، كنت أفكر في إمكانية لقائه من جديد، عندما سمعت صوته ينادي باسمي.
ـ حياة.
توقفت عن المشي من دون أن أستدير، ليلحقني هو ويقف أمامي، اقترب مني وقال بسرعة، وكأنه يمنع نفسه من التراجع:
ـ هل سأبدو وقحًا، لو طلبت رقم هاتفك؟
ـ أبدًا، بالعكس.
كنت سعيدة جدًا، قلبي يرتعش من السعادة، أمليته رقم هاتفي بسرعة ليسجله، وصعدت إلى المنزل ببطء، أجر أقدامي، وكأن شيئًا يجذبني إلى الأسفل، إلى الشارع، إليه.
كانت أمي لا تزال مستيقظة، تشاهد التلفاز كالعادة، حييتها، واندفعت من دون كلمة إلى الغرفة، كنت أريد الانفراد بنفسي قليلاً، التفكير فيه، استرجاع تفاصيل ملامحه، نبرات صوته، كل كلمة وكل رأي، لكني لم أفعل، كان رنين الهاتف يتصاعد برقم لا أعرفه.
ـ ألو.
ـ أهلاً، أنا خالد.
ـ أهلاً.
ـ هذا رقمي، حتى تتمكني من تسجيله.
ـ شكرًا.
ـ حياة.
ـ نعم؟
ـ أريد أن أراك غدًا.
ـ غدا؟
ـ وبعد غد، وبعد بعد غد.
ـ ماذا تقول؟
ـ أقول أريد أن أراك كل يوم، هل يمكن ذلك؟
كنت أبتسم عاجزة عن الرد، لم أعرف ماذا أقول، ضحكت فقط.
ـ سأعتبر هذه موافقة، سأمر عليك في الخامسة.
أغلق الهاتف بسرعة، من دون أن ينتظر إجابتي، ظللت دقائق صامتة، لا أستطيع التفكير أو الحركة، لا أعرف ما الذي حدث لي، من أين أتيت يا خالد؟ ولماذا؟
كان حبًا من النوع الذي تعرف جيدًا أنه سيستمر، كان حبًا يماثل تمامًا ما أريده، ما حلمت به، وأتمناه، وأخافه، عرفت منذ اللحظة الأولى، أننا لن نكمل الحياة ببساطة، مثل ريم وأحمد مثلاً، اللذان يستعدان لزواجهما السريع، بعد انتهاء أحمد من الدراسة، أدركت فورًا أنني لن أكون له، ولن يكون لي، لكننا بشكل أو بآخر، سنكون معًا للأبد، كان حبًا من الطراز الذي يأتي ليظل، ليبقى حافرًا ندباته على القلب والروح، وبقدر ما أسعدني ذلك، بقدر ما أرعبني، كنت أحب الممنوعات، لكني أخاف التورط فيها، هل تعرف، هذه الغصة الدائمة في حلقي، وُلدت في ذلك اليوم البارد من شهر يناير، واستمرت إلى يومنا هذا.
هذه الغصة يا آدم لا تذهب أبدًا، ولا بكل سعادة الدنيا، ولا بكل سوائلها الساخنة والباردة، ولا بأي شيء.
أحمل غصتي في حلقي وأسير، أتذكر خالد، وعينيه وكلماته، أتذكر شكل الشوارع، والمطر في طريقنا للمنزل، أتذكر ابتسامته ونظراته، أتذكرني جميلة، كما لم أكن أبدًا بعدها، أتذكر وأتحسر، وأتمنى لو توقف الزمن عند ذلك، عند هذه اللقطة، وأنا واقفة خلف الباب الزجاجي أتأمله، وهو يعطيني ظهره، وأعرف أنه هو الذي سيتحكم في حياتي المقبلة، وتاريخي الحالي.
هل أبدو مبالغة يا آدم؟ ربما لم أكن أحبه هكذا في يومها، ربما كان هذا الكلام كله من وحي خيالي، ربما لم يكن لقاؤنا الأول بهذا السحر، ربما لم أكن جميلة كما أتذكر، ربما لم يكن هو لطيفًا كما أتذكر، ربما لم نقع في غرام بعضنا البعض، منذ النظرة الأولى كما أتوهم، ربما نسيته فورًا بمجرد أن تركته، ربما لم أهتم به من الأساس في هذا اليوم، ربما كان كل هذا، تراكمًا عن كل السنوات التي قضيتها بعد ذلك، أحلم به، أتمنى لقاءه، أدعو الله أن أراه ولو صدفة، أتجول في الشوارع القريبة من منزله، القريبة من عمله، أزور الأماكن التي ارتدناها معًا، ألمس المقاعد التي جلسنا عليها معًا، أبحث بعيني عن طراز سيارته، عن لونها، عن أرقامها، أجلس بالساعات لأتأمل صفحته الشخصية على فيسبوك، صفحته التي لا يظهر منها، سوى صورة صغيرة، وعلامة تطلب مني إضافته كصديق، بعد أن قام بحذفي من قائمة أصدقائه، وكأنه يعتقد بأن هذا الأمر، كافٍ لحذفي من حياته، أو حذفه من حياتي.
أتعرف ما المشكلة يا آدم؟ المشكلة أنني لا أذكر شيئًا، أذكر مشاهد عريضة لقصتنا معًا، أذكر لقاءنا الأول وحدنا، تِجوالنا بالسيارة من دون هدف ثابت، أذكر الشوارع التي ذهبنا إليها، أذكر ملابسي، وملابسه، لكني لا أذكر حديثنا، لا أذكر ضحكاتنا وشجاراتنا، لا أذكر سوى حبي الجارف له، سوى ارتعاشة قلبي، عند احتضان كف يده لكف يدي، عن عينيّ الدامعتين، وهو يبتعد بعد إيصالي إلى منزلي، عن رغبتي الحارقة في الحديث إليه كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة.
ملكني خالد، ملكني وسيطر عليّ، استولى على قلبي كاملاً، فلم يُبق مكانًا لغيره، أبحث عنه في الوجوه فلا أراه، أبحث عنه في كل مكان، أذهب إليه فلا يأتي، أبحث عن صدفة ما تقودني إليه، فلا تحدث.
يقال إن هناك سبعة أشخاص، بين كل شخصين على الكوكب، سبعة يقفون في الطريق بين بعضهما البعض، سبعة معارف، شخص يعرف شخصا يرى شخصا يعرفه، كنت أبحث عن السبعة أشخاص، فلا أجد سوى ريم وأحمد، اللذيْن ينظران إليّ بإشفاق، اللذيْن يطالبانني بنسيانه، والاستمرار في حياتي.
وأنا لا أعرف كيف أفعل ذلك، كيف أقوم بهذا الفعل، السهل مثل النسيان، من دون أن أشطر قلبي إلى نصفين، من دون أن أنتزع مُخي من رأسي، وأفرغه بسكين حاد من آثار خالد، كيف أفعل ذلك، من دون أن أترك ندباته الباقية على روحي؟ كيف أفعل ذلك، من دون أن أثبته أكثر في عروقي، في خلاياي؟ أخبرني أنت يا آدم، بعد كل هذه السنوات، كيف أفعل ذلك؟
سيول 2015
ناطحات السحاب، تحيط بي من جميع الجهات، فلا أرى السماء، سوى من فتحة ضيقة فوق رأسي، ناطحات السحاب متلاصقة بشكل مريب، من منظوري ـ منظور النملة ـ أراها مائلة للأمام، تحيط بي في دائرة مكتملة، تنظر إليّ باحتقار فأشعر بالتضاؤل، أضع يدي في جيوبي، وأكمل السير.
أتضاءل أكثر، كلما تقدمت في المشوار، طقس سبتمبر اللزج يشعرني بالثقل، هناك ضباب ما مخيم على عقلي وعينيّ، لا أستطيع الرؤية بسهولة، عندما لا أتمكن من رؤية الأشياء بوضوح، أو عندما أفقد نظارتي الطبية لسبب ما، أشعر بثقل حقيقي على عيني، ينتقل إلى عقلي، فلا أستطيع السماع بوضوح، ولا الكلام، ولا التنفس.
يتحول الطنين إلى شيء مادي، يجثم على روحي، يحوم حول أنفاسي فتتثاقل، عقلي خاوٍ تمامًا، بلا أفكار، بلا ذكريات، بلا هدف.
هذا الصباح، كنت أرتدي العدسات اللاصقة الطبية، خفت من المطر المتساقط دائمًا في هذا الطقس الحار، أن يبلل النظارة، ويمنعني من الرؤية، ويدفعني فورًا إلى الجنون.
لكني ورغم كل الاحتياطات، ما زلت أشعر بهذا الضباب، يمتد إلى روحي، إلى قلبي، إلى حلقي، وحتى إلى أصابع يدي، فتسري الكهرباء الإستاتيكية فيها، أضم قبضتي بقوة داخل جيوب سترتي، وأكمل السير.
يسير البشر من حولي كالنمل، نمل سريع يسعى بين ناطحات السحاب إلى رزقه، في المدينة الكبيرة، النظيفة، الجميلة، لا أحد يتوقف ليرى الآخر، لا ابتسامات في غير موضعها، لا مجاملات، هناك أماكن مخصصة للمشي، أماكن مخصصة لعبور الشارع، أماكن مخصصة للدراجات، أماكن مخصصة للأمهات مع أطفالهن، أماكن مخصصة لأصحاب الكراسي المتحركة، أماكن مخصصة للتوقف، والالتفاف حول حاوية مليئة بالرمال لتدخين سيجارة، وإلقاء العقب فيها، من دون أن يلوث باقي الشارع.
المباني تختلف، من ناطحات عملاقة لشركات كبرى، وأخرى للسكن، بعضها مبانٍ إدارية، تمتلئ بالمكاتب، والعيادات، والشركات، ومدارس تعليم شيء ما، النقوش المزخرفة للكلمات، تغطي اللافتات التي تغطي بدورها واجهة البناية، نقوش ملونة، مضيئة، مهرجان مستمر حتى ساعات الصباح الباكر.
تشعرني الناطحات دائمًا بالاختناق، لذا أعيش في بناية متوسطة، تبدو قصيرة وسمينة وسط بقية مباني المدينة، في حي جانبي متواضع، لا يطل على شيء محدد، إذا مددت رأسي خارج النافذة، يمكنني أن أرى جبالاً متوسطة الطول مغطاة بالأشجار، تتخللها بعض المباني المكونة من طابق واحد، وسلالم منحوتة نحتًا في الصخر، من أجل هواة التسلق، الرياضة الأشهر في المدينة.
العمارات التي دائمًا ما يسكنها الأجانب، القادمون للبحث عن لقمة العيش، لونها أحمر طوبي، بلا شرفات، نافذة أو اثنتين في الشقة الصغيرة المكونة من غرفة واحدة، تمنحانك بعض القدرة على رؤية الشارع، تمنحانك بعضًا من القدرة، على ألا تفقد عقلك من الكليستروفوبيا.
أسكن في شقة صغيرة، إستوديو، لا حاجة لي في أكثر من ذلك، لا أراها إلا للنوم، صباحًا أنطلق إلى العمل، لا أعود إلا في المساء، أتمشى قليلاً، أذهب لتناول الطعام مع تيو، أجلس مع يانج شين في مقهاها الصغير المقابل للمنزل، ثم أذهب إلى النوم.
ينظر المارون إلى وجهي باندهاش، خاصة النساء والأطفال، أنا هنا أجنبية بملامح مختلفة، كما ننظر نحن إلى وجه سيدة شقراء، أو رجل ببشرة حمراء غريبة، الناس ودودون، لكنه ود الروبوتات الغريب، أشعر أحيانا بأنهم كائنات فضائية متنكرة، يسيرون وفقًا لنظام قاسٍ، لا يستطيعون التصرف وحدهم، لا يستطيعون مثلاً الفرار من مأزق، أو إنهاء مشاحنة، أو إقناعهم بأي شيء آخر، يختلف عن النظام الذي تعودوا عليه، إن فكر أحدهم في ارتكاب جريمة، سيعد خطة عبقرية بالتأكيد، لكن عند التنفيذ قد ينتهي به الأمر في السجن، إن حدث وتغيرت خطوة صغيرة في نظامه المحكم.
مثال متطرف تمامًا، يناسب مزاجي السوداوي الكئيب، مناسب لعملي أيضًا، ربما جاء نتيجة تفريغ الأخبار كل يوم، من تقارير وكالات الأنباء العالمية، إلى بيانات مكتوبة ومفسرة، لتتمكن المذيعة الحسناء، التي خضعت إلى عشرين عملية تجميل في وجهها، من التحدث عنها بشكل يجعلها تبدو على معرفة بما يحدث.
أجلس أمام الشاشات العملاقة، وأضع السماعات في أذني، أسمع، وأسمع، كلاما بالعربية، بالكورية، الفرنسية، الإنجليزية، لا أفهم سوى الكورية، العربية، والإنجليزية، وأحاول تفسير ما يدور بالفرنسية، أو أي لغة أخرى، من خلال بعض الكلمات، أملك قدرة على فهم محادثة ما تدور بلغة أخرى، من خلال حركة الجسم والعيون، أستطيع تخمين
ما يتحدثون عنه، من بعض المصطلحات العامة، تتردد كلمات مثل داعش، أمريكا، سوريا، بشار، المالكي، الأنبار، لأتمكن من فهم القصة، ثم البحث عن تفاصيلها، وإعدادها لنشرة السابعة.
هؤلاء القوم، لا يهتمون كثيرًا بأخبار العالم، لكن النشرة الإخبارية مستمرة رغم ذلك، الحقيقة أن معدل مشاهداتها مثير للضحك، أتوقع أنها لا تُشَاهد سوى على الشاشات العملاقة في المقاهي، أو بعد نسيان التلفاز مفتوحًا على هذه القناة، بالصدفة في المنزل، أثناء تناول العائلة للطعام، البرامج الحقيقية التي تجلب ملايين المشاهدات، لا تخرج عن برامج الطبخ، الطعام بمختلف أنواعه، الكاميرا الخفية، برامج المنوعات الكوميدية والفنية، وبالتأكيد قنوات الأغاني.
لكننا نتظاهر هنا بالأهمية والخطورة، أترجم الكلمات بدقة، وأنا أبحث في القاموس أمامي، أستعين ببعض المساعدة الإلكترونية في الترجمة، اللغة سهلة لكنها مليئة بالأفخاخ، التي لا يمكن ملاحظتها.
يمد لي تيو يده بكوب القهوة الورقي الساخن، «ملعقتا سكر وحليب»، يقول وهو متجه للجلوس خلف مكتبه، أبتسم ممتنة، أي رجل يجلب لي القهوة، أعرف أنني سأقع في غرامه يومًا ما، لكن تيو يجلب لي القهوة منذ عامين، ولم أعترف بحبه بعد.
ما هي إمكانية لقاء شخصين أحدهما من مصر، والآخر من هولندا، في كوريا الجنوبية، ليعملا معًا في ترجمة الأخبار الوحشية من حول العالم، وصبها صبًا في أذن المذيعة الحسناء، التي تم تصغيرها، لتنطقها بشفتيها المنتفختين بالفيلرز، وهي تظهر بعض التعاطف في عينيها، التي قامت بتوسعتهما وشد جفنيهما، حريصةً على ألا تسقط الرموش الصناعية الطويلة التي أضافتها، مع أنفها الطويل الذي استبدلته بأنفها الأفطس، كهدية نجاح من والديها، بعد اجتياز الثانوية العامة؟ مثل العادة هنا، لم تنس أيضا نحت عظام الوجنتين، وتشقير الشعر بعد التخرج، هذه نجمة هوليودية شقراء، وليست فتاة كورية معروفة.
أخبر تيو عن أفكاري بالإنجليزية فيضحك، أقول: «في مصر يمكن أن تقتل الأنثى في سبيل الحصول على شعر أسود فاحم ناعم، مثل الذي كانت تمتلكه يوما».
ـ كلنا نسعى إلى الأشياء التي لا نمتلكها عادة.
يقولها، وهو ينظر إلى جانب وجهي، أشعر بنظرته فأتظاهر بعدم الانتباه، أضع السماعات على أذني، وأعود إلى ترجمة الأخبار المقززة، شيئًا فشيئا، أتغلب على شعوري بالغثيان، أتغلب على هذا التقلص في أمعائي، ولا يظل سوى أثر الصداع المزمن، وبعض الصور التي تُطبع فورًا في تلافيف عقلي، لتزورني بعد ذلك في الكوابيس القادمة المستمرة.